فصل: تفسير الآية رقم (38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏‏}‏

انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمَكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لآمالهم‏.‏

و ‏{‏أمْ‏}‏ منقطعة في معنى ‏(‏بل‏)‏ للإضراب الانتقالي، والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ للإنكار‏.‏ وحرف ‏(‏لن‏)‏ لتأييد النفي، أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل، كما انتفى ذلك فيما مضى، فلعل الله أن يفضح نفاقهم‏.‏

واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه، ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقَلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحاً للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفيّ إذ هو عضو باطن فناسب المرض الخفيّ‏.‏

والإخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الإخراج استلال شيء من مكمَنه، فاستعير للإعلام بخبَر خفيّ‏.‏

والأضغان‏:‏ جمع ضِغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة‏.‏ والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر، وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله‏:‏

الضارِبين بكلّ أبيضَ مِخْذَم *** والطاعنين مَجَامع الأضغَان

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أضغانهم * وَلَوْ نَشَآءُ لأريناكهم فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ‏}‏‏.‏

كان مرض قلوبهم خفياً لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان، فذكر الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحداً واحداً فيعرف ذواتهم بعلاماتهم‏.‏

والسّيمَى بالقصر‏:‏ العَلامة الملازمة، أصله‏:‏ وِسْمَى بوزن فِعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء، وهو بكسر أوله‏.‏ فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سِوْمَى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرفهم بسيماهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏273‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لأريناكَ أشخاصهم فعرفتهم، أو لذكرنَا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول فعن أنس ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ذكره البغوي والثعلبي بدون سند‏.‏ ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عرفه بالمنافقين أو ببعضهم، ولكن إذا صح هذا فَإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام، ويحتمل أن الله قال هذا إكراماً لرسوله ولم يطلعه عليهم‏.‏

واللام في لأريناكهم‏}‏ لام جواب ‏{‏لو‏}‏ التي تزاد فيه غالباً‏.‏ واللام في ‏{‏فلعرفتهم‏}‏ تأكيد لِلام ‏{‏لأريناكهم‏}‏ لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإراءة‏.‏

‏{‏بسيماهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ‏}‏‏.‏

هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم ‏{‏لو نشاء لأريناكهم‏}‏ من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز‏.‏

واللام في ‏{‏ولتعرفنهم‏}‏ لام القسم المحذوف‏.‏

ولحن القول‏:‏ الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يُراد أن يفهمه دون أن يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية قال القتَّال الكِلائي‏:‏

ولقد وَحيت لكم لكيما تفهموا *** ولَحنتُ لحناً ليس بالمرتاب

كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم‏.‏

‏{‏القول والله يَعْلَمُ‏}‏‏.‏

تذييل، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفاً ‏{‏أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 29‏]‏‏.‏

واجتلاب المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يعلم‏}‏ للدلالة على أن علمه بذلك مستمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم أعمالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ومعناه معنى الاحتراس ممَّا قد يتوهم السامعون من قوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم أعمالكم‏}‏ من الاستغناء عن التكليف‏.‏

ووجه هذا الاحتراس أن علم الله يتعلق بأعمال الناس بعد أن تقع ويتعلق بها قبل وقوعها فإنها ستقع ويتعلق بعزم الناس على الاستجابة لدعوة التكاليف قوة وضعفا، ومن عدم الاستجابة كفراً وعناداً، فبيّن بهذه الآية أن من حكمة التكاليف أن يظهر أثر علم الله بأحوال الناس وتقدم الحجة عليهم‏.‏

ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله كتب لِكل عبد مقعده من الجنة أو من النار‏.‏ فقالوا أفلا نتكل على ما كُتب لنا‏؟‏ قال‏:‏ اعملوا فكل مُيَسَّر لما خلق له، وقرأ ‏{‏فأما من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى فسنُيَسِّره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنُيَسِّره للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 10‏]‏»

والبَلْو‏:‏ الاختبار وتعرُّف حال الشيء‏.‏ والمراد بالابتلاء الأمر والنهي في التكليف، فإنه يظهرَ به المطيع والعاصي والكافر، وسُمي ذلك ابتلاء على وجه المجاز المرسل لأنه يلزمه الابتلاء وإن كان المقصود منه إقامة مصالح الناس ودفع الفساد عنهم لتنظيم أحوال حياتهم ثم ليترتب عليه مئال الحياة الأبدية في الآخرة‏.‏ ولكن لما كان التكليف مبيّناً لأحوال نفوس الناس في الامتثال وممحّصاً لدعاويهم وكاشفاً عن دخائلهم كان مشتملاً على ما يشبه الابتلاء، وإلا فإن الله تعالى يعلم تفاصيل أحوالهم، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف فأشبهت الاختبار، فإطلاق اسم الابتلاء على التكليف مجاز مرسل وتسمية ما يلزم التكليف من إظهار أحوال النفوس ابتلاءً استعارة، ففي قوله‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم‏}‏ مجاز مرسل واستعارة‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ حرف انتهاء فما بعدها غاية للفعل الذي قبلها وهي هنا مستعملة في معنى لام التعليل تشبيهاً لعلة الفعل بغايته فإن غاية الفعل باعث لفاعل الفعل في الغالب، فلذلك كثر استعمال ‏{‏حتى‏}‏ بمعنى لام التعليل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ ولنبلونكم لنعلم المجاهدين منكم والصابرين، وليس المراد انتهاء البلوى عند ظهور المجاهدين منهم والصابرين‏.‏

وعلة الفعل لا يلزم انعكاسها، أي لا يلزم أن لا يكون للفعل علة غيرها فللتكليف عِلل وأغراض عديدة منها أن تظهر حال الناس في قبول التكليف ظهوراً في الدنيا تترتب عليه معاملات دنيوية‏.‏

وعلم الله الذي جعل علة للبلو هو العلم بالأشياء بعد وقوعها المسمى علم الشهادة لأن الله يعلم من سيُجاهد ومن يصبر من قبْللِ أن يبلوهم ولكن ذلك علم غيب لأنه قبل حصول المعلوم في عالم الشهادة‏.‏

والأحسن أن يكون ‏{‏حتى نعلم‏}‏ مستعملاً في معنى حتى نظهر للناس الدعاوي الحق من الباطلة، فالعلم كناية عن إظهار الشيء المعلوم بقطع النظر عن كون إظهاره للغير كما هنا أو للمتكلم كقول إياس بن قبيصةَ الطائي‏:‏

وأقَبلْتْ والخَطِّيُّ يخْطُر بيننا *** لا عَلَم منَ جَبَانُها مِن شجاعها

أراد ليظهر للناس أنه شجاع ويظهر من هو من القوم جبان، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ومِنْ شرَعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه‏.‏

وبلو الإخبار‏:‏ ظهور الأحدوثة من حسن السمعة وضده‏.‏ وهذا في معنى قول الأصوليين ترتُّبُ المدح والذم عاجلاً، وهو كناية أيضاً عن أحوال أعمالهم من خير وشر لأن الأخبار إنما هي أخبار عن أعمالهم، وهذه علة ثانية عطفت على قوله‏:‏ ‏{‏حتى نعلم المجاهدين منكم‏}‏‏.‏ وإنما أعيد عطف فعل ‏{‏نبلوَ‏}‏ على فعل ‏{‏نعلم‏}‏ وكان مقتضى الظاهر أن يعطف ‏{‏أخباركم‏}‏ بالواو على ضمير المخاطبين في ‏{‏لنبلونكم‏}‏ ولا يعاد ‏{‏نبلوَ‏}‏، فالعدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى هذا التركيب للمبالغة في بَلْو لأخبار لأنه كناية عن بلو أعمالهم وهي المقصود من بلو ذواتهم، فذكره كذكر العام بعد الخاص إذ تعلق البلو الأول بالجهاد والصبرِ، وتعلق البلو الثاني بالأعمال كلها، وحصل مع ذلك تأكيد البلو تأكيداً لفظياً‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولنبلونكم حتى نعلم‏}‏ ‏{‏ونبلوَا‏}‏ بالنون في الأفعال الثلاثة‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم تلك الأفعال الثلاثة بياء الغيبة والضمائر عائدة إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم أعمالكم‏}‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ونبلوَ‏}‏ بفتح الواو عطفاً على ‏{‏نعلمَ‏}‏‏.‏ وقرأه رويس عن يعقوب بسكون الواو عطفاً على ‏{‏ولنبلونكم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الظاهر أن المعنيّ بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقَّرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة، ثم جرى ذكر المنافقين، بعد ذلك ثُني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضاً ليعرِّف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يَلحقهم منهم أدنى ضُرّ، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقّوا الرسول صلى الله عليه وسلم

فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدْعُوا إلى السلم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وفعل ‏{‏شاقُّوا‏}‏ مشتق من كلمة شِق بكسر الشين وهو الجانب، والمشاقة المخالفة، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشِق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة‏.‏

وتبيُّن الهدى لهم‏:‏ ظهور ما في دعوة الإسلام من الحق الذي تدركه العقول إذا نبهتْ إليه، وظهور أن أمر الإسلام في ازدياد ونماء، وأن أمور الآخرين في إدبار، فلم يردعهم ذلك عن محاولة الإضرار بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فحصل من مجموع ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسولُ الله، وأن الإسلام دين الله‏.‏

وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير، وعليه فمشاقتهم الرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة خفية مشاقَّة كيد ومكْر، وتبيُّن الهدى لهم ظهور أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في التوّراة وكتب الأنبياء، فتكون الآية تمهيداً لغزو قريظة والنضير‏.‏

وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المفعول المطلق ل ‏{‏يَضُروا‏}‏ والتنوين للتقليل، أي لا يضرّون في المستقبل الله أقل ضرّ‏.‏ وإضرار الله أريد به إضرار دينه لقصد التنويه والتشريف لهذا الدين بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى‏}‏‏.‏

والإحباط‏:‏ الإبطال كما تقدم آنفاً‏.‏ ومعنى إبطال أعمالهم بالنسبة لأعمالهم في معاملة المسلمين أن الله يلطف برسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بتيسير أسباب نصرهم وانتشار دينه، فلا يحصِّل الذين كفروا من أعمالهم للصد والمشاقة على طائل‏.‏ وهذا كما تقدم في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏أضلّ أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل، وهذا التحقيق مثل ما في قوله في سورة يوسف ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 32‏]‏، وبين جملة ‏{‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتُوا وهم كفار‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 34‏]‏ وُجه به الخطاب إلى المؤمنين بالأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يبطل الأعمال الصالحة اعتباراً بما حكي من حال المشركين في الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم

فوصف الإيمان في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ مقابل وصف الكفر في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 32‏]‏، وطاعة الله مقابل الصدّ عن سبيل الله، وطاعةُ الرسول ضد مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم والنهي عن إبطال الأعمال ضد بطلان أعمال الذين كفروا‏.‏ فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها هي امتثال ما أمَر به ونهَى عنه من أحكام الدين‏.‏ وأما ما ليس داخلاً تحت التشريع فطاعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه طاعة انتصاح وأدب، ألا ترى أن بريرة لم تطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراجعة زوجها مُغيث لما علمتْ أن أمره إياها ليس بعزم‏.‏

والإبطال‏:‏ جعل الشيء باطلاً، أي لا فائدة منه، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة‏.‏

ومعنى النهي عن إبطالهم الأعمالَ‏:‏ النهي عن أسباب إبطالها، فهذا مهيع قوله‏:‏ ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏‏.‏ وتسمح محامِله بأن يشمل النهي والتحذير عن كل ما بيَّن الدِينُ أنه مبطل للعمل كلاًّ أو بعضاً مثل الردة ومثل الرياء في العمل الصالح فإنه يبطل ثوابه‏.‏ وهو عن ابن عباس قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏‏.‏ وكان بعض السلف يخشى أن يكون ارتكاب الفواحش مبطلاً لثواب الأعمال الصالحة ويحمل هذه الآية على ذلك، وقد قالت عائشة لما بلغها أن زيد بن أرقم عقد عقداً تراه عائشة حراماً‏:‏ أخبروا زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يترك فعله هذا ولعلها أرادت بذلك التحذير وإلا فما وجهُ تخصيص الإحباط بجهاده وإنما علمتْ أنه كان أنفس عمل عنده‏.‏

وعن الحسن البصري والزهري‏:‏ لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي الكبائر‏.‏ ذكر ابن عبد البرّ في «الاستيعاب»‏:‏ «أن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة وغزوتُ منها معه سبع عشرة غزوة‏.‏ وهذه كلها من مختلف الأفهام في المعنيّ بإبطال الأعمال وما يبطلها وأحسن أقوال السلف في ذلك ما رويَ عن ابن عمر قال‏:‏ «كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى نزل ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏، فقلنا‏:‏ ما هذا الذي يبطل أعمالنا‏؟‏ فقلنا‏:‏ الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ فكففنا عن القول في ذلك وكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها» اه‏.‏ فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها‏.‏

وعن مقاتل ‏{‏لا تبطلوا أعمالكم‏}‏ بالمنّ وقال‏:‏ هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا، يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمنون عليك أن أسلموا قل لا تَمنّوا علي إسلامكم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع، والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة أن الحسنات يُذهبن السيئات ولم يجئ‏:‏ أن السيئات يذهبن الحسنات، وقال‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويُؤتتِ من لدنه أجراً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات‏.‏ ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لا يسأل عما يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏، ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة‏.‏ ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها‏.‏ وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار، فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار‏.‏

وحمل بعض علمائنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏ على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى‏.‏ وإطلاق الإبطال على القطع وعدممِ الإتمام يشبه أنه مجاز، أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه، فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال، وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقاً‏.‏ ونسب ابن العربي في الأحكام مثلَه إلى مالك‏.‏ ومثله القرطبي وابن الفرس‏.‏ ونقل الشيخ الجد في «حاشيته على المحلّى» عن القرافي في «شرح المحصول» ونقل حلولو في «شرح جمع الجوامع» عن القرافي في «الذخيرة»‏:‏ أن مالكاً قال بوجوب سبْع نوافل بالشروع، وهي‏:‏ الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحو الوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد، وزاد حُلولو إلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولو في الأخير‏.‏ ولم ير الشافعي وجوباً بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏‏}‏

هذه الآية تكملة لآية ‏{‏إن الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 32‏]‏ الخ لأن تلك مسوقة لعدم الاكتراث بمشاقّهم ولبيان أن الله مبطل صنائعهم وهذه مسوقة لبيان عدم انتفاعهم لمغفرة الله إذ ماتوا على ما هم عليه من الكفر فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏

واقتران خبر الموصول بالفاء إيماء إلى أنه أشرف معنى الشرط فلا يراد به ذو صلة معيّن بل المراد كل من تحققت فيه ماهية الصلة وهي الكفر والموت على الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدّر لهم التعس، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكهم ولم يجدوا ناصراً، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دارالخلد وبما أتبع ذلك من وصف كَيْد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم‏.‏

فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل إلى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم‏.‏ ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السَّلْم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهياً عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أُحُد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا‏:‏ لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عُدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر، يتربصُون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لِما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق، وغزوة ذي قَرَد، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غيّر النبي صلى الله عليه وسلم لقبَه فلقبه الفاسق‏.‏

كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهِروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة‏.‏

والوهن‏:‏ الضعف والعَجز، وهو هنا مجاز في طلب الدعة‏.‏ ومعناه‏:‏ النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبّت في نفسه رُويداً رُويداً حتى تتمكن منها فتصبح ملكةً وسجيّة‏.‏ فالمعنى‏:‏ ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره، وأوَّلُها الدعاءُ إلى السلم وهو المقصود بالنهي‏.‏ والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذٍ في حال وهَن‏.‏

وعُطف ‏{‏وتَدعوا‏}‏ على ‏{‏تهنوا‏}‏ فهو معمول لِحرف النهي، والمعنى‏:‏ ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجهٍ لأن الدعاء إلى السلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة‏.‏

وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعُدة بالاستراحة من عُدوان العدوّ على المسلمين، فإن المشركين يومئذٍ كانوا متكالبين على المسلمين، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمِنوا منهم، وجعلوا ذلك فرصة لينشُوا الدعوة فعرفّهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقِع البأس‏.‏

ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأُتبع بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏‏.‏

فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها‏.‏ فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏61‏)‏، فإنه سلم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة‏.‏ فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخفّ ضرًّا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعُوا إليه‏.‏

وقد صالح النبي المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد، وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر‏.‏ وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش فقد آثرتُ سلامة المسلمين‏.‏ وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم‏.‏

وقرأ الجمهور إلى السَّلم‏}‏ بفتح السين‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر السين وهما لغتان‏.‏ وجملة ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏ عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء، والخبر مستعمل في الوعد‏.‏

والأعلون‏:‏ مبالغة في العلوّ‏.‏ وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏إنك أنت الأعلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏، أي والله جاعلكم غالبين‏.‏

و ‏{‏الله معكم‏}‏ عطف على الوعد‏.‏ والمعية معية الرعاية والكلاءة، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلاً‏.‏ والمعنى‏:‏ وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره‏.‏

وصيغ كل من جملتي ‏{‏أنتم الأعلون والله معكم‏}‏ جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولن يتركم أعمالكم‏}‏ وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة ‏{‏الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضلّ أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏ فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها، أي أن لا يخيبها، وهو ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏

يقال‏:‏ وتره يتره وَتْراً وتِرَة كوعد، إذا نقصه، وفي حديث «الموطأ» ‏"‏ من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِر أهلَه ومالَه ‏"‏ ويجوز أيضاً أن يراد منه صريحه، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم، أي الجهاد المستفاد من قوله ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم‏}‏ فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أعمالكم * إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْھَلْكُمْ‏}‏‏.‏

تعليل لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏ الآية، وافتتاحها ب ‏(‏إنّ‏)‏ مُغننٍ عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز، وليس اتصال ‏(‏إنّ‏)‏ ب ‏(‏ما‏)‏ الزائدة الكافة بمغيّر موقعها بدون ‏(‏ما‏)‏ لأنّ اتصالها بها زادها معنى الحصر‏.‏

والمراد ب ‏{‏الحياة‏}‏ أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافَيْن‏.‏

واللعب‏:‏ الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في مرحهم‏.‏

واللهو‏:‏ العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكدّ عقله‏.‏

والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ، شُبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار‏.‏

وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدّو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدّو بهم‏.‏

وحبّ الفتى طول الحياة يذله *** وإن كان فيه نخوة وعِزَام

‏{‏وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْھَلْكُمْ‏}‏ ‏{‏أموالكم * ؤإِن يَسْھَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أضغانكم‏}‏‏.‏

الأشبه أن هذا عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فلا تَهِنُوا وتدعُو إلى السلم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏ تذكيراً بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حبّ إبقاء المال الذي ينفَق في الغزو، فذُكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نُهُوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم، ولذلك وقع بعده قوله‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله إلى قوله‏:‏ ‏{‏عن نفسه‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏، على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله‏:‏ ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو‏}‏ مشير إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سبباً في الخير الدائم‏.‏

والأجور هنا‏:‏ أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى‏.‏

فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا‏}‏ الآية‏.‏

والمقصود من الجملة قوله‏:‏ ‏{‏وتتقوا‏}‏ وأما ذكر ‏{‏تؤمنوا‏}‏ فللاهتمام بأمر الإيمان‏.‏ ووقوع ‏{‏تؤمنوا‏}‏ في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلاً يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذ لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُّ رقبة أو إطعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏ الآية‏.‏

والظاهر أن جملة ‏{‏يؤتِكم أجوركم‏}‏ إدماج، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة ‏{‏ولا يسألكم أموالكم‏}‏‏.‏ وعطف ‏{‏ولا يسألكم أموالكم‏}‏ لمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏يؤتكم أجوركم‏}‏، أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البُخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفاً‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ وإن تؤمنوا وتتقوا باتباع ما نهيتهم عنه يَرض الله منكم بذلك ويكتِف به ولا يسألكم زيادة عليه من أموالكم‏.‏ فيعلمُ أن ما يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الإنفاق في سبيل الله إنما هو بقدر طاقتهم‏.‏ وهذه الآية في الإنفاق نظيرها قوله تعالى لجماعة من المسلمين في شأن الخروج إلى الجهاد ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثَّاقَلْتُم إلى الأرض أرضِيتُم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏ في سورة براءة ‏(‏38‏)‏‏.‏

فقوله‏:‏ ولا يسألكم أموالكم‏}‏ يفيد بعمومه وسياقه معنى لا يسألكم جميع أموالكم، أي إنما يسألكم ما لا يجحِف بكم، فإضافة أموال وهو جمع إلى ضمير المخاطبين تفيد العموم، فالمنفي سؤال إنفاق جميع الأموال، فالكلام من نفي العموم لا من عموم النفي بقرينة السياق، وما يأتي بعده من قوله‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا في سبيل الله‏}‏ الآية‏.‏

ويجوز أن يفيد أيضاً معنى‏:‏ أنه لا يطالبكم بإعطاء مال لذاته فإنه غني عنكم وإنما يأمركم بإنفاق المال لصالحكم كما قال‏:‏ ‏{‏ومن يبخل فإنما يَبْخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وهذا توطئة لقوله بعده ‏{‏ها أنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيل الله إلى قوله‏:‏ ‏{‏فإنما يبْخل عن نفسه‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ أي ما يكون طلب بذل المال إلا لمصلحة الأمة، وأية مصلحة أعظم من دمغها العدّو عن نفسها لئلا يفسد فيها ويستعبدها‏.‏

وأما تفسير سؤال الأموال المنفي بطلب زكاة الأموال فصرف للآية عن مهيعها فإن الزكاة مفروضة قبل نزول هذه السورة لأن الزكاة فرضت سنة اثنتين من الهجرة على الأصح‏.‏

وجملة ‏{‏إنْ يسألكموها‏}‏ الخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبْخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سبباً لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيَكثر الارتداد والنفاق وذلك يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان‏.‏

وهذا مراعاة لحال كثير يومئذٍ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسَّر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفَضّوا‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وهذا يشير إليه عطف قوله‏:‏ ‏{‏ويُخرج أضغانكم‏}‏ أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سبباً في ظهورها فكأنه أظهرها‏.‏ وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد‏.‏

والإحفاء‏:‏ الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل، يقال‏:‏ أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح‏.‏

وعن عبد الرحمن بن زيد‏:‏ الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك، وهو تفسير غريب‏.‏ وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة‏.‏

والبخل‏:‏ منع بذل المال‏.‏

والضغن‏:‏ العداوة، وتقدم آنفاً عند قوله ‏{‏أن لن يخرج الله أضغانهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 29‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية، فلطفُ الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالاً على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئاً فشيئاً لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏ويخرج‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة، وجوز أن يعود إلى البخل المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏تبخلوا‏}‏ أي من قبيل ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يخرج‏}‏ بياء تحتية في أوله‏.‏ وقرأه يعقوب بنون في أوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أضغانكم * هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى‏}‏

كلام المفسرين من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يسألْكُم أموالَكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عن نفسه‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 36 38‏]‏ يعرب عن حَيرة في مراد الله بهذا الكلام‏.‏ وقد فسرناه آنفاً بما يشفي وبقي علينا قوله‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء تُدْعَوْن لتنفقوا‏}‏ الخ كيف موقعه بعد قوله‏:‏ ‏{‏ولا يسألكم أموالكم‏}‏ فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفاً ‏{‏ولا يسألكم أموالكم‏}‏‏.‏

فيجوز أن يكون المعنى‏:‏ تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال‏:‏ ‏{‏والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏‏.‏ ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل‏.‏ ويحمل ‏{‏تدْعَون‏}‏ على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب‏.‏

ويجوز أن يحمل ‏{‏تدعون‏}‏ على دعوة الترغيب، فتكون الآية تمهيداً للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ ونحوها، ويجوز أن يكون إعلاماً بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملاً في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصْل وضعه‏.‏

وعلى الاحتمالين فقوله‏:‏ ‏{‏فمنكم من يبْخل ومن يبْخل فإنما يبْخل عن نفسه‏}‏ إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بُخلاً ليس عائداً بخلُه عن نفسه‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فإنما يبخل عن نفسه‏}‏ على الاحتمال الأول فإنما يبْخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بُخله بالضر عليه، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبْخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق‏.‏

والقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ قصر قلب باعتبار لازم بُخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دَعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق، فالقصر مجاز مرسل مركَّب‏.‏ وفعل ‏(‏بخل‏)‏ يتعدى ب ‏{‏عن‏}‏ لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب ‏(‏على‏)‏ لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه‏.‏ وقد عدي هنا بحرف ‏{‏عن‏}‏‏.‏

‏{‏وها أنتم هؤلاء‏}‏ مركب من كلمة ‏(‏ها‏)‏ تنبيه في ابتداء الجملة، ومن ضمير الخطاب ثم من ‏(‏هَا‏)‏ التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير‏.‏ ونظيرُه قوله‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ في سورة النساء ‏(‏109‏)‏‏.‏ والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجرداً عن ‏(‏ها‏)‏ اكتفاء ب ‏(‏هاء‏)‏ التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ها أنتم أولاء تحبونهم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏119‏)‏‏.‏

وجملة تُدْعَون‏}‏ في موضع الحال من اسم الإشارة، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولاً واضحاً‏.‏

وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد ‏(‏ها أنا‏)‏ ونحوه لحن، لأنه لم يسمع دخول ‏(‏ها‏)‏ التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب «مغني اللبيب»، بناء على أن ‏(‏ها‏)‏ التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو‏:‏ هذا وهؤلاء، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة‏.‏ ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب «المغني» في ديباجة كتابه إذ قال‏:‏ وها أنا بائح بما أسررته، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه «المزج على المغني»، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب«الحواشي الهندية» أن تمثيل الزمخشري في «المفصل» بقوله‏:‏ ها إن زيداً منطلق يقتضي جواز‏:‏ ها أنا أفعل، لكن الرضِيّ قال‏:‏ لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏والله الغني وأنتم الفقراء‏}‏ تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه‏}‏‏.‏

والتعريف باللام في ‏{‏الغني‏}‏ وفي ‏{‏الفقراء‏}‏ تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصْر، أي قصر الصفة على الموصوف، أي قصر جنس الغنِيّ على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب ‏{‏أنتم‏}‏ وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه، وإن كان يثبت بعض جنس الغني لغيره‏.‏ وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغْنَون في بعض الأحوال لكن ذلك غنًى قليل وغير دائم‏.‏

‏{‏وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ‏}‏‏.‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والتولي‏:‏ الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك‏.‏

والاستبدال‏:‏ التبديل، فالسين والتاء للمبالغة، ومفعوله ‏{‏قوماً‏}‏‏.‏ والمستبدَل به محذوف دل على تقديره قوله ‏{‏غيركم‏}‏، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه ‏(‏غير‏)‏ لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر‏.‏ والتقدير‏:‏ يستبدل قوماً بكم لأن المستعمَل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعولُ هو المعوَّض ومجرور الباء هو العوَض كقوله‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ تقدم في سورة البقرة ‏(‏61‏)‏‏.‏ وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز‏.‏ والمعنى‏:‏ يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين، بل المراد‏:‏ أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون‏.‏

روى الترمذي عن أبي هريرة قال‏:‏ تَلا رسول الله هذه الآية وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ ومن يُستبدَل بنا‏؟‏ قال‏:‏ فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على منكب سَلْمان الفارسي ثم قال‏:‏ هذا وقومُه، هذا وقومه» قال الترمذي حديث غريب‏.‏ وفي إسناده مقال‏.‏ وروى الطبراني في «الأوسط»‏:‏ هذا الحديث على شرطِ مسلم وزاد فيه ‏"‏ والذي نفسي بيده لو كان الإيمانُ منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس ‏"‏

وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي‏.‏ والجملة معطوفة ب ‏(‏ثم‏)‏ على جملة ‏{‏يستبدل قوماً غيركم‏}‏ فهي في حيّز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف، ويجوز رفعه على الاستئناف‏.‏ وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يقاتلوكم يولُّوكم الأدبار ثم لا ينصرون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏ على الرفع‏.‏ وأبدى الفخر وجهاً لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال‏:‏ وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن ههنا لا يكون متعلقاً بالتولّي لأنهم إن لم يتولوا يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا يُنصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وههنا جُزم للتعليق اه‏.‏ وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلّت الفاصلة‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ ناشئ على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض، وأما النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً بذلك، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريباً‏.‏

والفتح‏:‏ إزالة غلق الباببِ أو الخزانة قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُفتَّح لهم أبواب السماء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوّه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال‏:‏ فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال‏:‏ فتح بَدر‏.‏ وفتح أُحد‏.‏ فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله‏:‏ ‏{‏نصر من الله وفتح قريب‏}‏ في سورة الصف ‏(‏13‏)‏‏.‏ ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدّو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدّو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه‏.‏ وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين‏}‏ الآية سورة ألم السجدة ‏(‏28‏)‏‏.‏

ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين‏:‏ المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح‏.‏ والمعنى‏:‏ سنفتح‏.‏ وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي‏.‏ أو نقول استعمل فتحنا‏}‏ بمعنى‏:‏ قدّرنا لك الفتح، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع‏.‏ وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر مثل ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيهاً له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله‏:‏ ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد، وعن البراء بن عازب «تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية»، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح‏.‏

ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفَّل «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورةَ الفتح»، وفي رواية «دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته»‏.‏

على أن قرائن كثيرة تُرجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح‏:‏ أُولاها أنّه جعله مُبيناً‏.‏

الثّانية‏:‏ أنه جعل علّته ‏(‏النصر العزيز‏)‏ الثانية، ولا يكون الشيء علّة لنفسه‏.‏

الثالثة‏:‏ قوله ‏{‏وأثابهم فتحاً قريباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏‏.‏

الرّابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ومغانم كثيرة يأخذونها‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 19‏]‏‏.‏

الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازاً مرسلاً باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتِح مكة، أو كان سبباً فيهما فعن الزهري «لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجْل الأمن بينهم، وعلموا وسمِعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتاننِ إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكّة في عشرة آلاف» اه، وفي رواية «فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضُهم بعضاً فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلَّم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه»‏.‏ وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه، وصيغةُ الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب‏.‏ وقيل‏:‏ هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجئ في قوله‏:‏ ‏{‏إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب ‏(‏إن‏)‏ لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم، فعن عمر أنه لما نزلت ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ قال‏:‏ «أوَ فتح هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح ‏"‏‏.‏ وروى البيهقي عن عروة بن الزبير قال‏:‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما هذا بفتح صُددنا عن البيت وصُدّ هدينا‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله فقال‏:‏ بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون‏.‏

فقال المسلمون‏:‏ صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا»‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏فتحنا‏}‏ لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏فتحنا لك‏}‏ لام العلة، أي فتحنا لأجلك فتحاً عظيماً مثل التي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافاً للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليغفر لك الله‏}‏ بدل اشتمال من ضمير ‏{‏لك‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إنا فتحنا فتحاً مبيناً لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك، وهدايتك صراطاً مستقيماً ونصرك نصراً عزيزاً‏.‏‏.‏‏.‏ وجُعلت مغفرة الله للنبيء صلى الله عليه وسلم علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح، وليست لام التعليل مُقتضية حَصْرَ الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة، فإن كثيراً من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها ممّا يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبيء صلى الله عليه وسلم على ربه تعالى كان من علته أن يغفر الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم مغفرة عامة إتماماً للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبيء صلى الله عليه وسلم هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسلَه حتى لا يبقى لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات‏.‏ فجعل هذه المغفرة جزاء له على إتمام أعماله التي أرسل لأجلها من التبليغ والجهاد والنَصب والرغبة إلى الله‏.‏ فلما كان الفتح حاصلاً بسعيه وتسببه بتيسير الله له ذلك جعل الله جزاءه غفران ذنوبه بعظم أثر ذلك الفتح بإزاحة الشرك وعلوّ كلمة الله تعالى وتكميل النفوس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال حتى ينتشر الخير بانتشار الدين ويصير الصلاح خُلقاً للناس يقتدي فيه بعضُهم ببعض وكل هذا إنما يناسب فتح مكة وهذا هو ما تضمنته سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 1 3‏]‏ أي إنه حينئذٍ قد غفر لك أعظم مغفرة وهي المغفرة التي تليق بأعظممِ من تَابَ على تائب، وليست إلا مغفرة جميع الذنوب سابقها وما عسى أن يأتي منها مِما يعده النبيء صلى الله عليه وسلم ذنباً لشدة الخشية من أقل التقصير كما يقال‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإن كان النبيء صلى الله عليه وسلم معصوماً من أن يأتي بعدها بما يؤاخَذ عليه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب، ولهذا المعنى اللَّطيف الجليل كانت سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله‏}‏ مؤذنة باقتراب أجل النبيء صلى الله عليه وسلم فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس، وقد روي ذلك عن النبيء صلى الله عليه وسلم

والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال‏:‏ تقدم السائر في سيره على الركب، ويقال‏:‏ تقدم نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم وتأخّر‏.‏

وقد يترك ذلك اعتماداً على القرينة، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلِّق فيُنزَّل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات وأكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا ‏{‏ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏‏.‏ والمراد ب ‏{‏ما تقدم‏}‏‏:‏ تعميم المغفرة للذنب كقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه تعالى رَفَعَ قَدره رفعَة عدم المؤاخذة بذنب لو قُدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ في سورة القتال ‏(‏55‏)‏‏.‏

وإنما أسند فعل ليغفر‏}‏ إلى اسم الجلالة العلَم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصداً للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أُنف لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في ‏{‏ويُتمّ نعمته عليك ويهديك‏}‏ لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما‏.‏

وإتمام النعمة‏:‏ إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلّها للدخول تحت حكمه، وخضوع من عانده وحاربه، وهذا ينظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فذلك ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية وحصل بعد سنين‏.‏

ومعنى ‏{‏ويهديك صراطاً مستقيماً‏}‏‏:‏ يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبيء صلى الله عليه وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديُه إليه، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية‏.‏

والصراط المستقيم‏:‏ مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏ وتنوين ‏{‏صراطاً‏}‏ للتعظيم‏.‏ وانتصب ‏{‏صراطاً‏}‏ على أنه مفعول ثان ل ‏{‏يهدي‏}‏ بتضمين معنى الإعطاء، أو بنزع الخافض كما تقدّم في الفاتحة‏.‏

والنصر العزيز‏:‏ غير نصر الفتح المذكور لأنه جعل علة الفتح فهو ما كان من فتح مكة وما عقبه من دخول قبائل العرب في الإسلام بدون قتال‏.‏

وبعثهم الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقوا أحكام الإسلام ويُعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم‏.‏ ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبي صلى الله عليه وسلم المنصور، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معد يكرب‏:‏

آمِنْ ريحانة الداعي السميع *** أي المسمع، وكالحكيم على أحد تأويلين‏.‏

والعزة‏:‏ المنعة‏.‏

وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏وينصرك الله‏}‏ ولم يكتف بالضمير اهتماماً بهذا النصر وتشريعاً له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر والصراحة أدعى إلى السمع، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في ‏{‏ليغفر لك الله‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏عَزِيزاً * هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة‏}‏

هذه الجملة بدل اشتمال من مضمون جملة ‏{‏وينصرك الله نصراً عزيزاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وحَصل منها الانتقال إلى ذكر حظ المسلمين من هذا الفتح فإن المؤمنين هم جنود الله الذين قد نصر النبي صلى الله عليه وسلم بهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏ فكان في ذكر عناية الله بإصلاح نفوسهم وإذهاب خواطر الشيطان عنهم وإلهامهم إلى الحق في ثبات عزمهم، وقرارة إيمانهم تكوين لأسباب نصر النبي صلى الله عليه وسلم والفتح الموعود به ليندفعوا حين يستنفرهم إلى العدوّ بقلوب ثابتة، ألا ترى أن المؤمنين تبلبلت نفوسهم من صلح الحديبية إذ انصرفوا عقبه عن دخول مكة بعد أن جاؤوا للعمرة بعَدد عديد حسبوه لا يغلب، وأنهم إن أرادهم العدوّ بسوء أو صدهم عن قصدهم قابلوه فانتصروا عليه وأنهم يدخلون مكة قسْرا‏.‏ وقد تكلموا في تسمية ما حلّ بهم يومئذٍ فتحاً كما علمت مما تقدم فلما بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقُوا كاسفي البال شديدي البلبال، فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة، وسمّي إحداثه في نفوسهم إنزالاً للسكينة في قلوبهم فكان النصر مشتملاً على أشياء من أهمها إنزال السكينة، وكان إنزال السكينة بالنسبة إلى هذا النصر نظير التأليف بين قلوب المؤمنين مع اختلاف قبائلهم وما كان بينهما من الأمن في الجاهلية بالنسبة للنصر الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62، 63‏]‏‏.‏

وإنزالها‏:‏ إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة، وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال تشريفاً لذلك الوجدان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس فألقي إلى قلوب الناس، وتلك رفعة تخييلية مراد بها شرف ما أثبتت له على طريقة التخييلية‏.‏ ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سبباً لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحاً، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء فإن زيادة الأدلة تؤثر رسوخ المستدَلّ عليه في العقل وقوةَ التصديق‏.‏ وهذا اصطلاح شائع في القرآن وجعل ذلك الازدياد كالعلّة لإنزال السكينة في قلوبهم لأن الله علم أن السكينة إذ حصلت في قلوبهم رسخ إيمانهم، فعومل المعلوم حصوله من الفعل معاملة العلة وأدخل عليه حرف التعليل وهو لام كي وجعلت قوة الإيمان بمنزلة إيمان آخر دخل على الإيمان الأسبق لأن الواحد من أفراد الجنس إذا انضم إلى أفراد أخر زادها قوة فلذلك علق بالإيمان ظرف ‏{‏مع‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مع إيمانهم‏}‏ فكان في ذلك الحادث خير عظيم لهم كما كان فيه خير للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن كان سبباً لتشريفه بالمغفرة العامة ولإتمام النعمة عليه ولهدايته صراطاً مستقيماً ولنصره نصراً عزيزاً، فأعظم به حدثاً أعقب هذا الخير للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه‏.‏

‏{‏إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والارض وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏‏.‏

تذييل للكلام السابق لأنه أفاد أن لا عجب في أن يفتح الله لك فتحاً عظيماً وينصرك على أقوام كثيرين أشِداء نصراً صحبه إنزال السكينة في قلوب المؤمنين بعد أن خامرهم الفشل وانكسار الخواطر، فالله من يملك جميع وسائل النصر وله القوة القاهرة في السماوات والأرض وما هذا نصر إلا بعض مما لله من القوة والقهر‏.‏

والواو اعتراضية وجملة التذييل معترضة بين جملة ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم‏}‏ وبين متعلقها وهو ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏

وأطلق على أسباب النصر الجنود تشبيهاً لأسباب النصر بالجنود التي تقاتل وتنتصر‏.‏

وفي تعقيب جملة ‏{‏هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين‏}‏ بجملة التذييل إشارة إلى أن المؤمنين من جنود الله وأن إنزال السكينة في قلوبهم تشديد لعزائمهم فتخصيصهم بالذكر قبل هذا العموم وبعده تنويه بشأنهم، ويومئ إلى ذلك قوله بعد ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ الآية‏.‏

فمن جنود السماوات‏:‏ الملائكة الذين أنزلوا يوم بدر، والريح التي أرسلت على العدوّ يوم الأحزاب، والمطر الذي أنزل يوم بَدر فثبت الله به أقدام المسلمين‏.‏ ومن جنود الأرض جيوش المؤمنين وعديد القبائل الذين جاءوا مؤمنين مقاتلين مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة مثل بني سُليم، ووفود القبائل الذين جاءوا مؤمنين طائعين دون قتال في سنة الوفود‏.‏

والجنود‏:‏ جمع جند، والجند اسم لجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمعه باعتبار تعدد الجماعات لأن الجيش يتألف من جنود‏:‏ مقدمةِ وميمنةٍ وميسرةٍ وقلب وساقةٍ‏.‏

وتقديم المسند على المسند إليه في ‏{‏ولله جنود السماوات والأرض‏}‏ لإفادة الحصر، وهو حصر ادعائي إذ لا اعتداد بما يجمعه الملوك والفاتحون من الجنود لغلبة العدوّ بالنسبة لما لله من الغلبة لأعدائه والنصر لأوليائه‏.‏ وجملة ‏{‏وكان الله عليماً حكيماً‏}‏ تذييل لما قبله من الفتح والنصر وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه عليم بأسباب الفتح والنصر وعليم بما تطمئن به قلوب المؤمين بعد البلبلة وأنه حكيم يضع مقتضيات علمه في مواضعها المناسبة وأوقاتها الملائمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

اللام للتعليل متعلقة بفعل ‏{‏ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ فما بعد اللام علة لعلة إنزال السكينة فتكون علة لإنزال السكينة أيضاً بواسطة أنه علة العلة‏.‏

وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع توهم أن يكون الوعد بهذا الإدخال مختصاً بالرجال‏.‏ وإذ كانت صيغة الجمع صيغة المذكر مع ما قد يؤكد هذا التوهم من وقوعه علة أو علةَ علةٍ للفتح وللنصر وللجنود وكلها من ملابسات الذكور، وإنما كان للمؤمنات حظ في ذلك لأنهن لا يخلون من مشاركة في تلك الشدَائد ممن يقمن منهن على المرضى والجرحى وسقي الجيش وقت القتال ومن صبر بعضهنّ على الثُّكل أو التأيّم، ومن صبرهن على غيبة الأزواج والأبناء وذوي القرابة‏.‏ والإشارة في قوله ‏{‏وكان ذلك‏}‏ إلى المذكور من إدخال الله إياهم الجنة‏.‏

والمراد بإدخالهم الجنة إدخال خاص وهو إدخالهم منازل المجاهدين وليس هو الإدخال الذي استحقوه بالإيمان وصالح الأعمال الأخرى‏.‏ ولذلك عطف عليه ‏{‏ويكفر عنهم سيئاتهم‏}‏‏.‏

والفوز‏:‏ مصدر، وهو الظفر بالخير والنجاح‏.‏ و‏{‏عند الله‏}‏ متعلّق ب ‏{‏فوزاً‏}‏، أي فازوا عند الله بمعنى‏:‏ لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

الحديث عن جنود الله في معرض ذكر نصر الله يقتضي لا محالة فريقاً مهزوماً بتلك الجنود وهم العدو، فإذا كان النصر الذي قدره الله معلولاً بما بشر به المؤمنين فلا جرم اقتضى أنه مَعلول بما يسوء العدوّ وحزبه، فذكر الله من عِلة ذلك النصر أنّه يعذّب بسببه المنافقين حزبَ العدو، والمشركين صميم العدوّ، فكان قوله‏:‏ ‏{‏ويعذب المنافقين‏}‏ معطوفاً على ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والمراد‏:‏ تعذيب خاص زائد على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب الكفر والنفاق وقد أومأ إلى ذلك قوله بعده ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏‏.‏

والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفيّ فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه‏.‏

كان المنافقون لم يخرج منهم أحد إلى فتح مكة ولا إلى عمرة القضية لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين مظاهرين لهم ولأنهم كانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة وأنه يكون النصر للمشركين‏.‏

والتعذيب‏:‏ إيصال العذاب إليهم وذلك صادق بعذاب الدنيا بالسيف كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يعذبْهم الله بأيديكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏، وبالوَجل، وحذَر الافتضاح، وبالكمد من رؤية المؤمنين منصورين سالمين قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل موتوا بغيظكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة تسوءهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏ وصادق بعذاب الآخرة وهو ما خص بالذكر في آخر الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وأعد لهم جهنم‏}‏‏.‏

وعطف ‏{‏المنافقات‏}‏ نظير عطف ‏{‏المؤمنات‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏ المتقدم لأن نساء المنافقين يشاركنهم في أسرارهم ويحضون ما يبيتونه من الكيد ويهيئون لهم إيواء المشركين إذا زاروهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الظانين‏}‏ صفة للمذكورين من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات فإن حق الصفة الواردة بعد متعدد أن تعود إلى جميعه ما لم يكن مانع لفظي أو معنوي‏.‏

والسَّوء بفتح السين في قوله‏:‏ ‏{‏ظن السوء‏}‏ في قراءة جميع العشرة، وأما في قولهم ‏{‏عليْهم دائرة السوء‏}‏ فهو في قراءة الجمهور بالفتح أيضاً‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بضمّ السّين‏.‏ والمفتوح والمضموم مترادفان في أصل اللغة ومعناهما المكروه ضد السرور، فهما لغتان مثل‏:‏ الكَره والكُره، الضَّعف والضُعف، والضَّر والضُّر، والبَأس والبُؤس‏.‏ هذا عن الكسائي وتبعه الزمخشري وبينه الجوهري بأن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر، إلا أن الاستعمال غلب المفتوح في أن يقع وصفاً لمذموم مضافاً إليه موصوفه كما وقع في هذه الآية وفي قوله‏:‏ ‏{‏ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السَّوء‏}‏ في سورة براءة ‏(‏98‏)‏، وغلب المضموم في معنى الشيء الذي هو بذاته شرّ‏.‏ فإضافة الظن إلى السوء من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏

والمراد‏:‏ ظنهم بالله أنهم لم يَعد الرسول بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولا يقدر للرسول النصر لقلة أتباعه وعِزة أعدائه، فهذا ظن سوء بالرسول، وهذا المناسب لقراءته بالفتح‏.‏

وأمَّا دائرة السَّوء‏}‏ في قراءة الجمهور فهي الدائرة التي تسُوء أولئك الظانين بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏، ولا التفات إلى كونها محمودة عند المؤمنين إذ ليس المقام لبيان ذلك والإضافة مثل إضافة ‏{‏ظن السوء‏}‏، وأما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فإضافة ‏{‏دائرة‏}‏ المضموم من إضافة الأسماء، أي الدائرة المختصة بالسوء والملازمة له لا من إضافة الموصوف‏.‏ وليس في قراءتهما خصوصية زائدة على قراءة الجمهور ولكنها جمعت بين الاستعمالين ففتح السوء الأول متعيّن وضم الثاني جائز وليس براجح والاختلاف اختلاف في الرواية‏.‏

وجملة ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ دعاء أو وعيد، ولذلك جاءت بالاسمية لصلوحيتها لذلك بخلاف جملة ‏{‏وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم‏}‏ فإنها إخبار عما جنوه من سوء فعلهم فالتعبير بالماضي منه أظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

هذا نظير ما تَقدم آنفاً إلا أن هذا أوثر بصفة عزيز دون عليم لأن المقصود من ذكر الجنود هنا الإنذار والوعيد بهزائم تحل بالمنافقين والمشركين فكما ذكر ‏{‏ولله جنود السماوات والأرض‏}‏ فيما تقدم للإشارة إلى أنّ نصر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بجنود المؤمنين وغيرهما ذكر ما هنا للوعيد بالهزيمة فمناسبة صفة عزيز، أي لا يغلبه غالب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما أريد الانتقال من الوعد بالفتح والنصر وما اقتضاه ذلك مما اتصل به ذِكره إلى تبيين ما جرى في حادثة الحديبية وإبلاغ كل ذي حظ من تلك القضية نصيبهُ المستحق ثناء أو غيره صدر ذلك بذكر مراد الله من إرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك كالمقدمة للقصة وذكرت حكمة الله تعالى في إرساله ما له مزيد اختصاص بالواقعة المتحدث عنها، فذكرت أوصاف ثلاثة هي‏:‏ شاهد، ومبشر، ونذير‏.‏ وقدم منها وصف الشاهد لأنه يتفرع عنه الوصفان بعده‏.‏

فالشاهد‏:‏ المخبر بتصديق أحدٍ أو تكذيبه فيما ادعاه أو ادُعي به عليه وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏41‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويكون الرسول عليكم شهيدا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ أرسلناك في حال أنك تشهد على الأمة بالتبليغ بحيث لا يعذر المخالفون عن شريعتك فيما خالفوا فيه، وتشهد على الأمم وهذه الشهادة حاصلة في الدنيا وفي يوم القيامة، فانتصب شاهداً‏}‏ على أنه حال، وهو حال مقارنة ويترتّب على التبليغ الذي سيشهد به أنه مبشر للمطيعين ونذير للعَاصين على مراتب العصيان‏.‏ والكلام استئناف ابتدائي وتأكيده بحرف التأكيد للاهتمام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا‏}‏‏.‏ قرأ الجمهور الأفعال الأربعة ‏{‏لتؤمنوا وتعزروه وتوقروه وتسبحوه‏}‏ بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في ‏{‏لتؤمنوا‏}‏ لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل ‏{‏أرسلناك‏}‏‏.‏

والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم مع أمة الدعوة، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهداً ومبشراً ونذيراً، والمقصود الإيمان بالله‏.‏ وأقحم ‏{‏ورسوله‏}‏ لأن الخطاب شامل للأمّة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده‏:‏ «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» وقال يوم حنين‏:‏ «أشهدُ أني عبد الله ورسوله» وصحّ أنه كان يتابع قول المؤذن «أشهد أن محمداً رسول الله» ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف ‏{‏ورسوله‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون الكلام قد انتهى عند قوله ‏{‏ونذيرا‏}‏ وتكون جملة ‏{‏لتؤمنوا بالله‏}‏ الخ جملة معترضة، ويكون اللام في قوله ‏{‏لتؤمنوا‏}‏ لام الأمر وتكون الجملة استئنافاً للأمر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏ في سورة الحديد ‏(‏7‏)‏‏.‏

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيها، والضمائر عائدة إلى معلوم من السياق لأن الشهادة والتبشير والنذارة متعينة للتعلق بمقدّر، أي شاهداً على الناس ومبشراً ونذيراً لهم ليُؤمنوا بالله الخ‏.‏

والتعزيز‏:‏ النصر والتأييد، وتعزيزهم الله كقوله‏:‏

‏{‏إن تنصروا الله‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 7‏]‏‏.‏ والتوقير‏:‏ التعظيم‏.‏ والتسبيح‏:‏ الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص‏.‏

وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة لأن إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلها اسمين دليل على أن المراد أحدهما‏.‏ والقرينة على تعيين المراد ذكر ‏{‏وتسبحوه‏}‏، ولأن عطف ‏{‏ورسوله‏}‏ على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمان بالله فالمقصود هو الإيمان بالله‏.‏ ومن أجل ذلك قال ابن عباس في بعض الروايات عنه‏:‏ إن ضمير ‏{‏تعزروه وتوقروه‏}‏ عائد إلى ‏{‏رسوله‏}‏‏.‏

والبُكرة‏:‏ أول النهار‏.‏ والأصيل‏:‏ آخره، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه، كما يقال‏:‏ شرقاً وغرباً لاستيعاب الجهات‏.‏ وقيل التسبيح هنا‏:‏ كناية عن الصلوات الواجبة والقول في ‏{‏بكرة وأصيلا‏}‏ هو هو‏.‏

وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏، فزيد في صفات النبي صلى الله عليه وسلم هنالك ‏{‏وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً‏}‏ ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح‏.‏ ووجه ذلك أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر، والثناءِ على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشراً لأحد الفريقين ونذيراً للآخر، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبنِّي، فزيد كونه ‏{‏داعياً إلى الله بإذنه‏}‏، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همتُّه في الاهتداء دون التقعير‏.‏

وقد تقدم في تفسير سورة الأحزاب حديث عبد الله بن عَمرو بن العاصي في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في «التوراة» فارجع إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة، وهذه الجملة مستأنفة، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام، وصيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يبايعونك‏}‏ لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وَالحصر المفاد من ‏{‏إنما‏}‏ حَصر الفعل في مفعوله، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائيّ بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول‏.‏ وحيث كان الحصر تأكيداً على تأكيد، كما قال صاحب «المفتاح»‏:‏ «لم أجعل ‏(‏إنّ‏)‏ التي في مفتتح الجملة للتأكيد لِحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان»‏.‏

وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايَع بالفتح على وجه التخييلية مثل إثبات الأظفار للمنية‏.‏

وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايَع بالفتح كما قال كعب بن زهير‏:‏

حتى وضعتُ يميني لا أُنازعه *** في كَفِّ ذي يَسرات قِيلُه القِيل

ومما زاد هذا التخييل حسناً ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في «المفتاح»‏:‏ والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزّه عن اليد وسمات المحدثات‏.‏

فجملة ‏{‏يد الله فوق أيديهم‏}‏ مقررة لمضمون جملة ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله‏}‏ المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة ‏{‏يد الله فوق أيديهم‏}‏ وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف‏.‏ وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم‏:‏ إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة ‏"‏، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايَع بالفتح ويضع هذا المبايَع يده على يد المبايع، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية‏.‏ ويشهد لهذا ما في «صحيح مسلم» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عُمر آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلاً يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين‏.‏ وأيًّا مَّا كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل‏.‏

والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعْنَك على أن لا يشركن بالله شيئاً‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة‏.‏ وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السّمُر وكانوا ألفاً وأربعمائة على أكثر الروايات‏.‏ وقال جابر بن عبد الله‏:‏ أو أكثر، وعنه‏:‏ أنهم خمس عَشرة مائة‏.‏ وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة‏.‏ وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي‏.‏ وتسمّى بيعة الرضوان لقول الله تعالى ‏{‏لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم، فكان جابر بن عبد الله يقول‏:‏ بايعوه على أن لا يَفرَّوا، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد‏:‏ بايعناه على المَوت، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت‏.‏ ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبيّة عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائباً بمكة للتفاوض في شأن العمرة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال‏:‏ «هذه يد عثمان» ثم جاء عثمان فبايع، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جَمَلِهِ حتّى بايع الناسُ ولم يكن منافقاً ولكنّه كان ضعيف العزم‏.‏ وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض‏.‏

وفرع قوله‏:‏ ‏{‏فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏}‏ على جملة ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله‏}‏، فإنه لما كَشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيماً خطيراً في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك‏.‏

والنكث‏:‏ كالنقض للحبل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد‏.‏

والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل‏.‏ ومضارع ‏{‏ينكث‏}‏ بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القرّاء‏.‏ ومعنى ‏{‏فإنما ينكث على نفسه‏}‏‏:‏ أن نكثه عائد عليه بالضرّ كما دلّ عليه حرف على‏.‏

و ‏{‏إنما‏}‏ للقصر وهو لقصر النكث على مدلول ‏{‏على نفسه‏}‏ ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال‏:‏ أوفى بالعهد وهي لغة تهامة، ويقال‏:‏ وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى‏.‏

قالوا‏:‏ ولم ينكث أحد ممن بايع‏.‏

والظاهر عندي‏:‏ أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ورويس عن يعقوب ‏{‏فسنؤتيه‏}‏ بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏ وقرأه الباقون بياء الغيبة عائداً ضميره على اسم الجلالة‏.‏